صورة المدينة من أصواتها

6_6حسام عيتاني:

أوائل التسعينات، بيعت مجموعة عمارات قديمة مؤلفة من طابقين او ثلاثة، بعضها مبني بالحجر الرملي بالقرب من بيتنا في منطقة عائشة بكار البيروتية. كان أكثر سكان العمارات هذه قد تركوها منذ اعوام وحل مكانهم مهجرون من الجنوب. وثمة مبنيين يشبهان فيلاتين صغيرتين مع حديقة وأشجار “الفتنة” التي لا غنى عنها وشجرة توت شامي كبيرة في واحد منهما وبعض نباتات الزينة هُدما ايضا ضمن مبادلة راجت في تلك الفترة يحصل بموجبها البائع على شقق سكنية في المبنى الذي سيقام على الارض المشتراة.

انتعاش السوق العقارية بعد الحرب حسّنَ في نظر المستثمرين شراء البيوت القديمة وانشاء عمارات حديثة شاهقة مكانها حيث تعوض زيادة المساحة المضافة عموديا ضيق رقعة العقار الاصلي. مثّلت العملية ربحا واضحا في بلد باشر الخروج من الحرب الأهلية من جهة ويفتقر الى مجالات الاستثمار بسبب ضيق سوقه وسيطرة جماعات منظمة على تجارته وصناعته، من جهة ثانية.

قبل ذلك بسنوات، بعيد الاجتياح الاسرائيلي في 1982، هُدمت منازل قديمة عند الطرف الشمالي لحديقة التلفزيون (حديقة المفتي حسن خالد حاليا)، كان من بينها واحد تحيط به اشجار الكينا المعمرة وتقع وراء سوره فسحة رملية واسعة شكلت ملعبا لاولاد الحارة الذين لم يكن في وسعهم لعب كرة القدم في الحديقة. وارتفع مكان البيوت هذه “سنتر” تجاري وسكاني هو آية من آيات القبح وانعدام الذوق ما زال حتى اليوم يشوه المنظر العام للحي. افضى فشل هذا المركز الى بقاء اقسام واسعة منه شاغرة تُنفر الراغبين في السكن او افتتاح محلات فيه. في ذاك الزمن لم يكن تجار العقارات قد اهتدوا بعد الى فكرة “المول” الأكثر طموحا من السنتر والاكثر التزاما بقوانين الربح الخالص.

انتهت اعمال الهدم سريعا قرب منزلنا. وبدأت اعمال الحفر وصبّ الأساسات الاسمنتية وارتفعت الادوار عالية. ضجيج كل هذه الأعمال كان مما يمكن تحمله باعتباره استثناء على حالة اقرب الى الهدوء رغم وقوع البيت على طريق رئيس في بيروت هو اوتوستراد القنال 7.

بعد بناء عواميد الاسمنت المسلح حان وقت الأشغال الداخلية ومنها إعداد الامدادت الكهربائية والصحية. تستدعي هذه استخداما كثيفا لآلات الثقب والحفر والقطع (المقدح او الدريل وما يصطلح على تسميته “الصاروخ” ذي القرص المعدني والكومبريسور باحجام مختلفة الخ…) والحال ان للماكينات هذه اصواتا حادة يمكن تمييزها بسهولة عن اصوات آليات الهدم وصب الإسمنت الجهيرة والقارّة. وفيما تصدر أصوات الهدم واقامة الانشاءات الاسمنتية في ساعات محدودة اثناء النهار، تتسع فترة اعمال تركيب الامدادات من بدايات الصباح حتى مغيب الشمس. 

يباشر العمال مهماتهم احيانا عند السابعة صباحا في ثقب الجدران الحجرية لتمرير وتثبيت انابيب تكون في الغالب برتقالية او ذات الوان واضحة ومميزة تحمل لاحقا الاسلاك الكهربائية او الهاتفية، او قساطل المياه والصرف الصحي. تمر الايام والاسابيع ولا تنتهي اعمال التمديد والتركيب والتثبيت في مبنى الا لتبدأ في آخر. هذا اذا لم يكتشف المهندس خطأ انشائيا فيطلب هدم حائط هنا او بناء آخر هناك ما يفاقم ضجيج الالات.

تعدد ورش البناء بداية التسعينات وانضمام وسط بيروت اليها واعادة تأهيل الشوارع والبنى التحتية التي تعود الى اوائل السبعنيات ساهم مساهمة لا تُمحى في جعل اصوات آلات الحفر والقطع خصوصا اليدوية والصغيرة، من الاصوات المُشكلة لهوية بيروت الصوتية، اذا جاز القول.

الحق ان هذه الهوية تتبدل اثناء ساعات النهار. فحتى في أكثر الشوارع افتقارا الى الاشجار او المساحات المفتوحة، يمكن في ساعات الفجر سماع اصوات اليمام وانواع اخرى من الطيور البرية تبدأ صباحها. وكان من عادة بعض البيارتة تربية الدجاج على السطوح، رغم الحظر الرسمي، حيث تقوم الديوك بالصياح الصباحي مضفية طابعا ريفيا على احياء الاسمنت والزجاج. هذا ناهيك عن كشات الحمام التي تضاءلت في الأعوام القليلة الماضية حتى كادت تختفي وتختفي معها اصوات صفير الكشاشين في ساعات ما بعد الظهيرة يستدعون رفوفهم للعودة الى الاقنان أو يطلقون عليها من مقاليع مرتجلة قشور الليمون والاحجار الصغيرة للفت انتباهها او لطرد حمامة دخيلة قد تكون مرسلة لسرقة ذكور الرفوف، وغيره مما يدخل ضمن تكتيكات الكشاشين القتالية وحروبهم الباردة الازلية. يضاف طبعا على هذه المجموعة من الأصوات الطبيعية أصوات استهلال النشاط البشري كصوت رفع أبواب الدكاكين الحديدية او صوت مشاية (شحاطة) بلاستيكية على الاسفلت يقصد منتعلها او منعلتها الفرن القريب لشراء المناقيش.

وليس توالي ساعات النهار وحده ما يحدد الصوت الغالب في المدينة. بل أن للسنوات اصواتها ايضا. في ذاكرتي ان صوت اواسط الثمانينات هو الصمت المطبق في وسط بيروت لا يخرقه الا اصوات طلقات نارية متباعدة. ايام القتال مختلفة الاصوات كذلك. فجولات الحروب بين المنطقتين الشرقية والغربية كان الصمت فيها سيد الشوارع لا يخرقه الا انفجار قذيفة هنا او مرور سيارة اسعاف تنقل جريحا او قتيلا هناك. أما اشتباك المسلحين المحليين فيبرز فيها صوت الاسلحة الخفيفة والمتوسطة وقاذفات الصواريخ اضافة الى اصوات المقاتلين وشتائمهم عندما يقتربون من مراكز وتحصينات بعضهم البعض وضجيج اجهزتهم اللاسلكية واوامرهم المقتضبة او صراخهم على المدنيين الذين يسترقون النظر من النوافذ او الشرفات للبقاء عميقا في داخل البيوت.

وصوت أواخر الثمانينات والفترة التي سبقت ولحقت نهاية الحرب الاهلية هو صوت المولدات الكهربائية، الصغيرة منها تحديدا، امام المتاجر وعلى الشرفات وفي كل فسحة متاحة بعدما انهارت الشبكة الكهربائية العامة جراء الاعمال القتالية.

غالبا ما تقدم اصوات المدينة والوانها وروائحها التي تعم أيامها العادية، او مظاهر المارة وطرق مشْيِهم وتعابير وجوههم، انحناء ظهورهم او انتصابها، درجة عنايتهم بمظاهرهم وثيابهم، الملصقات على جدرانها، إعلانية كانت ام سياسية، تصورات عن احوال ناس المدن واجتماعهم والثقافة المهيمنة عندهم. مراقبة تبدل هذه الاشارات على مدى السنوات يندرج في “عيش” المدينة والغوص في تراكيبها وهويتها، في الماضي والحاضر. تصورات قد تُكمل ما توفره الاحصاءات والدراسات الاجتماعية التقليدية من فهم لواقع سريع التحولات.

فكرة واحدة على ”صورة المدينة من أصواتها

أضف تعليق