المأساة المزدوجة لنهاية مسيحيي لبنان (١\٤)

فداء عيتاني:

إذا لم يدم لبنان مئة عام؛ الدولة التي أُسست للمسيحيين فيه، أسهموا أنفسهم في نهايتها ربما بأكبر نصيب. ومما لا شك فيه أنهم دمروها في العقد والنيف الأخير أكثر مما فعل نظام حافظ الأسد والإسرائيليين معا قبلهما.

انتهى لبنان وانتهى معه مسيحيوه. ليس الأمر بحاجة إلى إعلان، لقد بات الأمر محسوما منذ أمد طويل. أصبح يمثلهم عجوز نصف خرف أعمته شهوة السلطة منذ عقود، وشاب أحمق فارغ العين، وتعميه شهوة المال والحسد منذ أن ظهر إلى العلن. إنهما ميشال عون وجبران باسيل، ممثلا مأساة المسيحيين الأولى، أو مأساة النهاية المريعة لسقوط سلطة المسيحيين في لبنان.

يطرح احد الأصدقاء السؤال المفصلي: هل الانحطاط المسيحي اتى بميشال عون؟ ام ان عون منذ حرب العام ١٩٨٨ هو من تسبب بالانحطاط المسيحي؟ ام ان الامر جدلي؟ عون تسبب بالانحطاط نتيجة مواقفه وافعاله مع الهزائم المسيحية المتراكمة والانحطاط دفع أشخاصا كعون إلى الواجهة؟

قبيل انتخابات العام ٢٠٠٥ النيابية، وقبل اغتيال رفيق الحريري بأشهر قليلة بينت الأرقام والتقديرات المستقاة من لوائح الشطب أن أعداد المسيحيين في لبنان تضاءلت، وتبرع كثير من القادة السياسيين يومها بإعلان أهمية الوجود المسيحي في البلد الصغير ودورهم الذي سيحافظ عليه بحجم تمثيله البرلماني بغض النظر عن العدد والديموغرافيا.

إلا أن ما كان يصح وقتها تغير مع الزمن. انهارت المؤسسات المسيحية واحدة تلو الأخرى. الإرساليات والمدارس الرهبانية بحالة يرثى لها. بدأت قبل ظهور البلد، كرست التعليم والتفوق للمسيحيين ليتمكنوا من محاكاة الغرب والدخول في فلكه، وتكرس المتعلمون في مواقع السلطة ثم انتهت بتقديم أردأ أنواع التعليم متوقفة عن التطور، وأصبح الطمع يتآكلها من داخلها. الأديرة تحتفظ بمساحات شاسعة من الأملاك بينما يجمع فقراء الطائفة التبرعات للكنيسة ويدفعون بدل تعليم أطفالهم من لحمهم الحي.

وسائل الإعلام المسيحية في لبنان أيضا أصبحت تشبه المهزلة وسيطر عليها الطرف الأقوى. بدأت بمنافسة المدرسة المصرية، وخطت مدرسة في الصحافة فاتحة الباب لإعلام لبناني ينعم بهامش من حرية التعبير، وانتهت إلى الإفلاسين المادي والمهني مع سيطرة حزب الله على صحيفة النهار وتلفزيون المؤسسة اللبنانية للإرسال وتقريره لسياستهما، وإن لم يفعل فلن يجد آل التويني ما يقولونه غدا صباحا. تحولت مدرسة النهار إلى حضانة أطفال تنشر مواضيع منوعات من حول العالم، بينما تلفزيون المر يعيش ترف تكنولوجيا العصر ويستهلك أفكارا ماتت منذ نصف قرن.

تلحق مستشفيات المسيحيين في لبنان بالرهبنة وتهالكها. باتت هذه المستشفيات في أسفل السلم الإنتاجي وأعلى سلم التكلفة، والخدمات المقدمة مشكوك بجودتها. وهنا لا تشذ المصارف التي فقدت كما باقي المؤسسات المسيحية الكثير من موقعها، كما فقدت جاذبيتها للعالم العربي من حولنا، وتحولت إلى مراكز نهب منظم وتبييض أموال. وما ينطبق على المسيحيين ينسحب على غيرهم في البلاد، إلا أن هذا البلد قد أسس من أجلهم، أو هكذا يتوهمون ونتوهم معهم، وهم الخاسر الأكبر والمساهم الأكبر في موته بعد أن بات ينتظر من يبكيه وهو محمول بسرعة نحو القبر.

ربما كان الانهيار الأكبر هو ذوبان طوائف مسيحية عدة في جسم وتحت إدارة الثنائي عون – باسيل، لم يعد للسريان صوت كما السابق، الأرثوذكس الذين طالما تمايزوا عن الموارنة باتوا شبه غائبين عن الحضور السياسي، ولحق بهم اخرون، الأرمن باتوا خارج الزمن، او اختفى صوتهم في غيتواتهم، الأقليات الأخرى أيضا اضمحلت او انضم ممثلوها إلى جوقة الجنون العوني، وحدهم القوات اللبنانية يحاولون التمايز، كان نجاحهم الأكبر في انتزاع توقيع ميشال عون على مناصفة السرقات المسماة حصص وزارية ووظائف القطاع العام، الا ان عون كالعادة، انقلب على توقيعه وترك القوات تلطم وحيدة بعد ان نسيت تجربتها المرة مع عون العام ١٩٨٩. هذا الانهيار أدى إلى غياب أي رأي مختلف عن رأي ممثل الموارنة، وبات ميشال عون يمثل كل مسيحيي لبنان، من أقصاه إلى أقصاه، وترهل ميشال عون فكريا واخلاقيا وجسديا ينعكس على كل الجسم المسيحي في لبنان، بات تعفنه هو تعفن كل الطوائف المسيحية ومعها فكرة الكيان وشكله وحتى حدوده الدولية.

الأمثلة أكثر من أن تعد عن تدهور أوضاع المسيحيين، الذين قادهم يوما شاب كبشير الجميل، وكان من الجرأة أن يقول إنهم “قديسو هذا الشرق وشياطينه”، ويحاول التماهي بمشروع العدو الإسرائيلي. اليوم بات يمثلهم جبران باسيل، الذي لا يجرؤ على إعلان أي لبنان يريد، وأي طائفة هم المسيحيون في هذا الشرق.

في الماضي القريب كان الفن والغناء بمساعدة المسرح والشعر والقصة، يتولون ترسيخ أسطورة تأسيس لبنان، ويدافع عنها الإعلام المسيحي وتحميها مؤسسات عدة، باتت اليوم الأسطورة مزحة أقرب إلى الكابوس بعد أن كرسها ميشال عون بعبارة “شعب لبنان العظيم” وطعمها بشعار “الشعب الطز”.

تحالف مع من؟

إلا أن الإنصاف يقضي القول إن لبنان نفسه ينتهي، المسيحيون عاشوا حلمهم لاقل من نصف قرن، الطوائف الأخرى أتت الى السلطة على دبابات النظام السوري، كل ذلك اصبح ركاما. ليس من مستقبل للبلد، ولا دور له في المنطقة.

رفيق الحريري، أو وزير خارجية حافظ الأسد انتهى مقتولا بعد أن حول البندقية إلى الكتف الأميركي. بشار الأسد وإيران لم يحفظا له ما قام به في الماضي، أعلنوا عن سقوط التسوية الأميركية ـ السعودية ـ السورية في لبنان بقتل رفيق الحريري، الرجل الذي أسس لنظام الفساد، ونظرية “شراء السلم الأهلي بإعطاء الحصص (المالية) لممثلي الطوائف” أي مؤسس الجمهورية اللبنانية الثاني الفاسدة.

كل التشابك يومها قلص التمثيل المسيحي، إلا أن ذلك انقضى بعد العام ٢٠٠٥، وانتهت الانتخابات النيابية بحصة وازنة لميشال عون وصهره جبران، ومن يومها بدأ النهب المنظم لمرافق الدولة العامة، جبران باسيل يبيع وحدات الهاتف الخليوي في مكتب سكرتيرته في الوزارة، ثم يكتشف ما هو أكبر وأدهى، وتبدأ السرقات ونهب المال العام، وحين تمكن من الوصول للمرة الأولى إلى وزارة الموارد المائية والكهربائية انهارت مؤسسة كهرباء لبنان وانتهت الموارد المائية إلى تجارة عقارات تتحول إلى أراض قاحلة على شكل سدود مائية.

لنتذكر أن المال العام هو عمليا مجموعة الديون التي أخذناها من الداخل والخارج، وكان يفترض أن تؤسس لبنى تحتية وتوسع القدرة الاستثمارية على قاعدة رؤية اقتصادية لدور ما للبنان في المنطقة، ولكن كل ذلك انتهى العام ١٩٩٦ مع فشل المفاوضات مع العدو، انتهى دورنا وخطتنا ومستقبلنا. لم يبحث أحد في أي خدمات نبيع في زمن لا سلم فيه ولا حرب بالمعنى الشامل. عاش البلد على استهلاك أموال المقرضين، المصارف، التي أخذت هذه الأموال من المواطنين المودعين، والسرقات تمت من أموال هؤلاء، وكان المسيحيون لا يزالون يعانون رضة نهاية الحرب والغبن اللاحق، إلى أن شاركوا في منهبة البلاد منذ العام ٢٠٠٥، دون أن يتخلوا عن المطالبة بـ”حقوق المسيحيين المسلوبة”. وصلنا إلى مئوية لبنان وليس لدى جنود الجيش ما يسدون به رمقهم.

تحالف مشتهي السلطة مع إيران وسوريا، وتخلى عن الولايات المتحدة ليصل إلى حكم بلد حوله مع صهره وباقي أفراد العائلة وحليفه الرئيسي حزب الله إلى مزبلة مفتوحة، لكن قناعة مسيحية في مكان ما تردد أن لبنان يدور في فلك الغرب، وخاصة أوروبا، وأن ابتزازنا للاتحاد الأوروبي بملف اللاجئين السوريين هو في الحقيقة رعاية غربية لنا من منطق المحبة، وأن الأموال الغربية والعربية ستواصل التدفق علينا، وسنعيش دائما في نعمة المال الرخيص بحسب المصطلح المالي (Cheap money). أموال تتدفق بفوائد ميسرة وتسهيلات في الدفع، أموال يسهل سرقتها وتحويلها إلى الخارج، أو توظيفها بفوائد عالية.

دكتور جيكل ومستر هايد

المأساة المسيحية الثانية هي تلك النظرة إلى الذات، الأنا المتورمة، التي باتت ترى أن كوكب الأرض لا يستغني عن وجودها، وربما مساهمتها في إدارة اقتصاداته من دون موازنات على ما ذهب جبران باسيل في إحدى تصريحاته الرعناء.

يذكر ممثلو المسيحيين اليوم حرية التعبير والخطوط الحمر في الجملة نفسها، وبالتصريح ذاته ستجد كلمات كالعروبة واللبنانوية وفلسطين والغرب، يراجع هؤلاء ماضي بات يبدو سحيقا، ولكنه في دواخلهم هو الحاضر. بعد النكسات والضربات التي تعرضوا لها خلال اكثر من نصف قرن لم يتعلموا ولم يتأقلموا، بل يحاولون تجاوز الهوة الزمنية بقفزات بهلوانية حينا بالسياسة واغلب الأحيان بالتذاكي اللغوي. يبدعون في تطوير الفساد ويتهمون شريكهم السني والدرزي باحتكاره، او ببساطة يجهلون الفاعل. يتغنون بالنوع وبالاختلاف عن العرب والانفتاح ثم يمنعون سكن الطوائف الأخرى في نطاق بلدياتهم.

حولتهم الحرب والهزائم إلى مرضى، باتوا باطنيين، يدفعهم التوق إلى المال لاستجداء العرب والأميركيين، والسلطة إلى التذلل لبشار الأسد وحكام ايران، بينما يتغنون بنمط حياة حديث واصالة لبنانية عريقة، وجوهر كياني، لا يزالون يصدقون ما ذكره عنها أمثال فؤاد افرام البستاني وميشال شيحا. لا تعلم اهو المرض اخذ منهم مأخذا باتوا بعده حالة مستعصية ام ان سكرات موت البلد برمته أطاحت بهم يمنة ويسرة وصاروا يهذرون، او ببساطة تدنى مستوى قادتهم الذهني من طامحين لتقديم الخدمات بين الشرق والغرب إلى لصوص يتفتفون الكلمات نثرات في خطابات غير صالحة للقراءة ويعجز التدقيق اللغوي عن تحريرها ووضعها للاستهلاك.

كل هذه الضحالة في التمثيل المسيحي المتمثلة في جبران باسيل وعمه الرئيس نصف الخرف لا يضاهيها إلا خبث حزب الله الذي بات المدافع الأول عن النظام منذ الأيام الأولى للانتفاضة، الخبث في ترك البلد يتعفن، ودفع المسيحيين إلى المزيد من الترهل والطيش بنفس الوقت، والإمساك بما بقي من أنقاض البلاد بغية توظيفها يوما في معركة ما مع العدو لمصلحة برنامج تفاوضي إيراني جديد. معركة مؤجلة، يتم التلويح بها منذ أكثر من عقد ونصف بينما تشهد الحدود أطول فترة سلام مع العدو في تاريخ بلدنا.

تحول لبنان اليوم إلى أكوام من النفايات، يترأسه ديك أعمى، يديره آخر نهم يشتهي النفايات دون شبع، ويربطهما نصرالله بحبل رفيع حول خصره، لا يتمكن المسيحيون اليوم من تقرير مصيرهم، يتوهون عن قبلتهم الأولى، هل هو دول الغرب أم دول الشرق؟ إنها نهاية المسيحيين، مأساة اضمحلال الدور منذ بداية الحرب الأهلية إلى اليوم حيث بات يمثلهم هؤلاء، ومأساة رؤيتهم لأنفسهم عكس ما هم عليه في الواقع.

هذا عن المسيحيين أما مأسي باقي الطوائف المتنازعة في لبنان فلها بحث آخر.

4 أفكار على ”المأساة المزدوجة لنهاية مسيحيي لبنان (١\٤)

  1. شو هالحقد لعنده يا الكاتب عميشال عون وعالتيار. نديم قطيش بعزه ما طلع معه هيك. الحق عالتيار كان لازم قعد عجنب وتركلكن عاطف مجدلاني، نبيل دو فريج، ميشال المر و فريد مكاري يتحكموا بمستقبل المسيحيين بلبنان كان يمكن الكاتب ارتاح وشاف مستقبل مزدهر للمسيحيين بالشرق.

    إعجاب

  2. لا احد يمكن ان يتكهن بمصير المسيحيين في لبنان… خاصةً الموارنة منهم!
    امن مار مارون او يوحنا مارون فهم موجودون من القرن الرابع ميلادي اي قبل ظهور الاسلام ب٢٠٠ عام… وقبل ٦٠٠ سنة من ظهور الروم الارثوذكس !
    في احدى احلك حقبات تاريخهم صمدوا ٨٠ سنة محاصرون في وادي قنوبين بعد ان هربوا مطرودين من كل لبنان على يد المماليك! ولم يساعدهم يومهااحد ابداً واستطاعوا من فك الحصار مجدداً والعودة الى كل لبنان!
    لا احد يمثل او بامكانه ادعاء تمثيل المسيحيين في لبنان…لا احد ! الا ايمانهم بدينهم وبلبنان فقط لا غير!
    اما من هم المدينون لهم بالمساعدة؟ فهم كلهم غير مسيحيين وهنا المفارقة ! لان في الامر دلالة : المسلمون هم الاشد حرصاً على المسيحيين: اثنان عبر التاريخ لا غير الامام السني الاوزاعي وقد انقذهم من ابادة العباسيين والدرزي فخر الدين الثاني الكبير الذي اسس الكيان اللبناني المستقل ! لا الصليبيين ولا من يحزنون !
    وفي التاريخ الحديث المسيحيون مديونون ببقاءهم في ارضهم ل حافظ الاسد سنة ٧٦ لقوات بشير الجميل حتى سنة ٨٢ ولحسن نصرالله منذ ٨٢
    ! لم يكن يوماً عددهم يذكر ليستطيع حمايتهم…حمايتهم تاتي من المسلمين اما اعداءهم اللدودين فهم كانوا وما زالوا وسيبقوا اعداء الدين المسيحي والمسيحيين الفعليين : الصهاينة اليهود…شكراً يا استاذ عيتاني الغيور !

    إعجاب

أضف تعليق