الشيعة في مئة عام: ضحايا لبنان وكابوسه (٣\٤)

فداء عيتاني:

لم يكتب لطائفة في لبنان الدينامية التي تمتعت بها الطائفة الشيعية واتاحت لها بعد مئة عام من اعلان دولة لبنان التحول من أكثر الطوائف ظلما إلى الطائفة الظالمة دون روادع. وان كان من اسم علم يجب ان يطلق على صعود الشيعة في لبنان فهو طائفة نبيه بري.

تعرض شيعة لبنان إلى ما لم يذقه سواهم من مهانة واضطهاد، اقلية حقيقية في محيط متلاطم من الطوائف والملل، شواهد في بعض قرى الجبل لا تزال تشير إلى ان هؤلاء القوم كانوا هنا وتم ترحيلهم في حملات وغزوات، بعض الاحياء في القرى لا تزال تحمل اسم “حارة المتاولة” الذين تركوها منذ أكثر من مئة عام. ولا يزال شبح التاريخ القريب يخيم فوق أبناء الطائفة يدفعها ربما إلى اقصى حدود العنف للدفاع عن أنفسهم. الطائفة نفسها لم تكن مرة موحدة. ولكن هاجس العودة إلى الظلامة وتعرضها للاحتقار من الطوائف الأخرى يدفعها دائما إلى تذكير نفسها بان ما يقوم به قادتها هو من أجل “الكرامة والعزة”، حتى بات شعار الكرامة وأشرف الناس هو المبرر لكل الاعمال الإجرامية والحقيرة التي قد يقوم بها أبناء الطائفة وقادتها.

متاولة الجنوب وشيعة البقاع

يصر زعماء الشيعة على عدم تمثيل الاقطاع القديم لهم، ولكن تلك كانت قسمتهم، والتاريخ السياسي للشيعة يكاد ينحصر في الجنوب اللبناني، ليس فقط لان الثقل الأساسي كان هناك، ولكن لان جذب الانتباه واستخدام الشعار السياسي هناك كان أسهل، انها حدود فلسطين المغتصبة، وخط التماس مع العدو الدائم ونقطة ضعف البلاد. انها انعكاس المظلومية الشيعية بشعارات جذابة لأغلب المواطنين.

النقاش عن البقاع والهرمل يأتي في مرتبة ثانية، لا ضرورة للفت الكثير من الانتباه لما يجري هناك، البناء الرئيسي للمظلومية هو في الجنوب ويمكن لأهل البقاع ان يفعلوا ما يرغبون او يقدرون للاستمرار على قيد الحياة.

دينامية عالية دفعت الطائفة ورموزها إلى التعلم واكتساب الخبرات السياسية، المشاركة في كل الأحزاب: الشيوعي بفرعيه، البعثين العراقي والسوري، القومي، مرورا بميليشيات الناصرية وصولا إلى فصائل المقاومة الفلسطينية، لم يترك الشيعة وكوادرهم أي باب غير مطروق.

كتابهم ومثقفوهم أيضا توزعوا على كل القضايا والأحزاب والصحف، شعراء ورجال دين ذهبوا يمينا ويسارا وندر ان خرج من بينهم من رفع اسم الطائفة اذ كانوا يرون الخلاص في حلول للقضايا الوطنية او حتى القومية، وربما الأممية.

حاربوا اقطاعهم واقطاع الدولة والسياسيين، ناضلوا باسم كل القضايا، وحين خرج موسى الصدر لم يكن يمثل الكثير للنخب، وتحول إلى قديس الفقراء المحرومين في الطائفة وأصحاب الحظوظ القليلة في التعليم الثقافة. لم يبخل احد على قادة هذه الطائفة بالدعم والمساعدة، الاموال السياسية تدفقت مع بداية الحرب الأهلية من كل حدب وصوب، من الجزائر وليبيا والعراق، وفي حين كانت مخابرات الجيش تطارد شيوعييهم دون رحمة، تعاونت مع غيرهم من الطائفة دعما وتحفيزا.

إسرائيل والفرصة الذهبية

مع الاحتلال الإسرائيلي للجنوب دخل الشيعة المرحلة الذهبية، قياداتهم كانت متوزعة على كل المفارق، مع المفاوضات وضدها، مع امين الجميل وضد سلطته، مع الاحتلال وضده، مع سوريا وضدها. وبينما كان محمد سليم يقاتل الإسرائيليين كان داوود داوود على عكسه وعماد مغنية يقتل الاميركيين ويخطف الطائرات بإدارة إيرانية مباشرة، بينما نبيه بري يتحدث عن المقاومة ويقاتل في الضاحية الجنوبية وبيروت الغربية ضد الجيش حينا وضد باقي الأحزاب في اغلب الأحيان، الخبرة الكبيرة التي اكتسبها الأخير من مرحلة الصراع ضد الشيوعيين في الجنوب اهلته لا دارة تناقضات ولعب على حبال لم تتح لبهلوان غيره في تاريخنا الحديث.

وأخيرا دخل الشيعة بمظلوميتهم إلى الوطن، واحتلوا غرب العاصمة متسللين أولا، ومتخليين لاحقا عن الوظائف الدنيا التي يعايرهم بها أبناء باقي الطوائف، حاربوا الجميع ولكن أولا تقاتلوا ما بين بعضهم البعض، كان من الضروري ومع ظهور طرف اخر في الصراع، أي حزب الله، ان تتم عمليات تصفية للقواعد.

حرب ضروس تلك التي جرت بين حركة امل وحزب الله في السر أولا، وتصفية الكوادر واجتذاب العناصر، انشقاقات عن حركة أمل ثم في تصفية كوادر من أحزاب أخرى نافستهم على قواعد الطائفة، ما لبثت الحرب المكتومة ان تحولت إلى صراع معلن بين الطرفين، لا يرغب احد اليوم في تذكره، لا نبيه بري ولا حسن نصرالله، وهو الذي كان شابا ولعب دورا في عمليات الامن والتعبئة في حزب الله. تخلل هذه الحرب محاولة فاشلة لإبادة الفلسطينيين في مخيمات الجنوب والضاحية بطلب من حافظ الاسد.

خطف طائرات، تفجيرات في الكويت، خطف رهائن غربيين وروس، إضافة إلى تدمير الضاحية وإقليم التفاح في حروب داخلية، فرضت على حافظ الأسد الاعتراف بنفوذ ايران في لبنان، ليس من دون اشتباكات ما بين الجيش السوري وحزب الله، ولا من دون بضعة الاف من القتلى من الشيعة من حزب الله وحركة امل، وفي النهاية اقنع الخامنئي الأسد الاب بصفقة ما بان يتم التسامح مع وجود ايران في لبنان.

مع نهاية الحرب الأهلية واستمرار معارك حزب الله وحركة امل لبضعة أشهر تاليات في الجنوب تم في النهاية اعلان نهاية المعارك لتبدأ مرحلة تقاسم التركة، الحركة تأخذ حصتها من الدولة وحزب الله من القتال ضد الإسرائيليين.

الاستيلاء على البلاد

مرحلة أخرى دخلتها قيادات الطائفة الشيعية مع ضمانة سورية بان تنحصر الأدوار بنبيه بري، الرجل المفضل لدى حافظ الأسد وحرسه القديم، وإعطاء حصة محددة لحزب الله في البرلمان. تم طي صفحة الماضي القريب من الصراعات عبر نسيانها لا بل ونفيها من الذاكرة.

تحول التسلل إلى العاصمة لاستيلاء بحكم الامر الواقع، وظروف العمل وتطور الامور. تمكن نبيه بري الذي حول موسى الصدر إلى قضية مركزية لدى الشيعة من السطو على الكثير من مقدرات الدولة وتوزيع المغانم على المحاسيب، من وادي الذهب وصندوق الجنوب وصندوق المهجرين (رغم تركيز تقديماته على الدروز والموارنة)، تم نهب المالية العامة بإدارة واشراف بري ورفيق الحريري والياس الهراوي.

أطلق حينها رفيق الحريري نظرية الأجيال الثلاثة التي تحكم لبنان، جيل السياسيين التقليديين الممثلين بإلياس الهراوي، وجيل الحرب الاهلية الممثلين بنبيه بري وجيل ما بعد الحرب والتطلع إلى المستقبل والذي يمثله هو. الا ان الجيل الوحيد الذي تمكن من البقاء على قيد الحياة والازدهار في السلم كما في الحرب كان جيل الحرب، بينما اختفى جيل رفيق الحريري او يكاد وغرق جيل الياس الهراوي وحسين الحسيني (على سبيل المثال) في النسيان مع أوراق الدستور وصيغة العيش المشترك ومحاضر اتفاق الطائف.

حين قال الامام روح الله موسوي الخميني ان “إسرائيل غدة سرطانية” لم يخطر بباله ان حزب الله اللبناني سيتعلم من هذه الغدة ويتحول لمثلها. بينما كان نبيه بري يلعب دور الاخطبوط في السيطرة على مقدرات الإدارة العامة في لبنان، كان حزب الله يتحول إلى سرطان ينتشر في جسم البلد بطوله وعرضه، مخترقا نسيج الطوائف الأخرى وخاصة السنة والدروز ما امكنه ذلك.

حشر نبيه بري عشرات الاف الموظفين في الإدارات العامة، ووظف اخرين في إدارات خاصة ومنظمات محلية وإقليمية ودولية عاملة في لبنان، مرقيا بالقوة والغصب والابتزاز المقربين والنافعين، وفرض اكلاف باهظة على الميزانية العامة منذ العام ١٩٨٤ وحتى اليوم، مغذيا زعامته للطائفة ليس فقط بالدم، بل بالأموال العامة. يقابله حسن نصر الله الذي حول حزبه إلى كابوس مرضي ينهش في خلايا لبنان، ويفتك بكل شيء، ينتشر في كل المرافق وكل القطاعات.

أصبح للطائفة الشيعية الكثير مما يمكن ان تخسره. تمددت في العاصمة وانعزلت في الضاحية، وانتشرت حيث يمكن إلا حين تصطدم برفض المسيحيين تمددها في مناطقهم، ومع ذلك تسلل معارضو الثنائية من الشيعة أنفسهم للسكن في المناطق المسيحية مخافة مجاورة أبناء طائفتهم نفسها. ومنذ نهاية الحرب الأهلية أصبح للشيعة ما يدافعون عنه، وهم ينتقمون بتشجيع مباشر من زعامتهم ممن ظلمهم لعقود طويلة في هذه البلاد. استولوا على شجرة الميلاد المسيحية، وصاروا يحتفلون بأعياد الأخرين ومناسباتهم، وحين تدعوا الحاجة باتوا يحمون النظام السياسي في لبنان، بل ويتدخلون لحماية أنظمة أخرى، في سوريا واليمن والعراق وغزة. لم يعد الحديث عن زراعة المخدرات وصناعة الكباغون يثير حفيظة أحد، ولا خطوط التهريب إلى الخليج وتجارة النفط مع داعش والسرقة المعلنة لحقول وممتلكات سنة سوريا المنتفضين وغير المنتفضين على النظام هناك لا تعني الكثير، ولا تبذل القيادة السياسية جهدا في الرد عليها.

الكرامة الكرامة

قاتل الشيعة طويلا، خسروا الاف من الشبان واحرقت ارضهم، ولكنهم حصلوا على شيء ما أخيرا، اعتراف الطوائف الأخرى بهم، وهو اعتراف اتى على مضض، وربما اتى فقط تحت تهديد السلاح، وبسلطة الشارع القاهرة، واغلب الأحيان اتى والمسدس موجه إلى رأس الطوائف الأخرى، اعتبر قادة الشيعة ان الامر قد قضي، وهاهم يتحدثون عن الكرامة والعزة والرفعة والشراكة وحتى عن اشرف الناس، بينما في الواقع يعلم الجميع ان العنصرية اللبنانية لا تجد في جمهور الشيعة شريكا، وان لحظة انزياح المسدس عن رأس باقي الطوائف فان أحدا لن يعترف بشراكة الشيعة وقادتهم.

يعتبر قادة الشيعة ان القاعدة الصلبة من التعلم والترقي الفكري والثقافي التي راكمها أبناء الطائفة، قد أسست لنهوض فكري وثقافي مترافق مع تطور مالي دفع بالطائفة من مكانة اجتماعية إلى أخرى.

في الواقع ادت الهجرة وتدفق أموال المهاجرين والأموال السياسية إلى تشوه كبير في البنية الاجتماعية للطائفة، تشوه لا تريد القيادات السياسية الحالية للطائفة الالتفات له طالما انها امسكت وأخيرا بزمام الامور. الاموال المتراكمة والتي أدخلت الطائفة في الاعتراف لم ترفع من المستوى الاجتماعي، وانما فقط المالي، ويمكن لاي متجول في الضاحية الجنوبية ان يدرك الفرق بين الامرين.

العزلة والانعزال

تخيل قادة الشيعة مع ايغال حزب الله في الدم السوري، ان بإمكانهم حماية المراكز الحيوية للطائفة وجمهورهم، اغلقوا الضاحية الجنوبية والمناطق الكثيفة سكنيا، الغرق في الدم السوري من جهة، والاجرام ضد المنتفضين في سوريا، كما عزل المناطق والشعور بكراهية مقابلة من جهة أخرى زاد حجم التشوه الاجتماعي لدى جهوري حزب الله وحركة أمل. العزلة والانعزال أديا إلى تراكم مجموعة من الاوهام لدى جمهور حزب الله كما لدى قيادته على ما يبدو، بات الانطباع العام لدى هؤلاء انه يكفي الاستمرار بتوجيه المسدس إلى رأس البلاد حتى يكون كل شيء على ما يرام.

الشراكة في النهب مع جبران باسيل وأركان التيار الوطني الحر عمقت التشوه في البنية الاجتماعية والفكرية لدى الطائفة التي رفعت الكرامة والشرف عنوانا لها، وبات مكافحة الفساد هو التعبير اليوم عن هذه الكرامة، مكافحة الفساد من اشرف الناس، الذين دفعتهم نقص الاموال الايرانية إلى الاستيلاء على حصة لهم في الدولة اللبنانية، والمشاركة مع التيار الوطني الحر ورئيس الجمهورية في نهب ما تبقى من أموال لدى الدولة اللبنانية، كل ذلك بالنسبة لقادة الطائفة جزء من تركيبة لبنان التي تصر قيادة حزب الله على استخدام تعبير “هيدا لبنان” بحال المسائلة، ولكن هذه القيادة ونبيه بري اكبر من أي مسائلة بكل تأكيد، وثقة جمهورهما بهما تدفع بهذا الجمهور إلى الانتفاض على باقي الطوائف، او قمع تحركات واعتصامات المواطنين المطالبين بالإصلاحات وبرحيل منظومة الفساد.

لا يمكن لأي شعار سياسي ان يعبر أكثر من صرخة شبان فقراء جائعون مخدرون (بالقول والفعل) ينقضون على المتظاهرين من انتفاضة ١٧ تشرين، اللهم الا ما صرخوا به هم أنفسهم: “شيعة شيعة شيعة”. بأختصار وتكثيف دقيق هذا هو العنوان وهذا ما يدافعون عنه، وهو ما بات على المحك، بحال سقوط هيكل المنظومة اللبنانية الحالية فان من سيخسر هم قادة الطائفة والطائفة التي التفت حولهم.

حين صرخ حسن نصر الله “لا تعذبوا حالكم هيدا العهد مش رح يسقط” كان يقف تماما حيث وقف حزب الكتائب اللبنانية العام ١٩٧٥، ولكن بظروف أكثر ملاءمة لمصلحة الأول.

ها قد أكمل التاريخ دورته وأصبح المظلوم ظالما، وطبعا سيتابع التاريخ دورته كرة كارثية أخرى.

فكرتان اثنتان على ”الشيعة في مئة عام: ضحايا لبنان وكابوسه (٣\٤)

  1. على الرغم من الاختلاف الكبير بيني وبينك في ما كتبت، لكني لا أخفي استمتاعي بقراءة المقال حتى النهاية

    إعجاب

  2. يثير الشفقة من لا يستطيع أن يرى في الشيوعي والبعثي والقومي والناصري والمقاومة.. الا انه شيعي!
    المحزن حقا، انه مرض معد..
    اذا دخل الحقد قلبا، قام العقل ودّع وارتحل!
    كم هو عميق هذا التخلف!

    إعجاب

أضف تعليق