تلك بيروت الوحيدة التي اعرف

مقاتلان يلعبان الشطرنج خلال حصار بيروت ١٩٨٢
مقاتلان يلعبان الشطرنج خلال حصار بيروت ١٩٨٢

فداء عيتاني:

تصحو كل يوم وانت تحاول ان تعيش اليوم، وتقرأ ما يحصل وما سيكون، وفي كل يوم تعلم ان جرح الاجتياح الاسرائيلي (١٩٨٢) لم يندمل، وحتما لن شفى، الا انك تترك الامس للامس، وتحاول الحفاظ على ما استخلصته من ذاك الوقت الماضي.

يحل حزيران، شهر النكبات والنكسات والمواجع. تعود الذاكرة لتفرض نفسها وتمحو كل ما عداها، وانت تقاتل حتى تستمر ليوم اخر حيا على قيد الزمن الحالي.

في كل عام تكتب عن ذاك الاجتياح، الا ان الجرح لا يتوقف عن النزف، والكتابة لا تساهم في الشفاء. كانت الطفولة لا تزال في عيوننا حين اغارت الطائرات الاسرائيلية اولا على المدينة الرياضية في بيروت، الموقع الذي حولته منظمة التحرير الفلسطينية والعديد من الاحزاب اللبنانية الى ثكنات عسكرية ومخازن للعتاد، وكان يوم الرابع من حزيران، المشاهد التي تناقلتها الصحف للرعب والخوف والفرار والاشلاء كان صادما حتى لمن عاش منذ فتح عينيه في جو الحرب الاهلية والقصف والقتال الشوارعي.

ثم بدأت الطائرات تغير علينا، ترك جيش الاحتلال الاسرائيلي، القادم نحو بيروتنا، في الايام الاولى مجالا واسعا لاخراج السكان المدنيين، وفي الاعوام التاليات، وحين سأدرس العلوم العسكرية على ايدي مدربين محترفين، سأعلم ان التكتيكات الاسرائيلية اعتمدت في الايام الاولى على استيعاب المناطق، وتطويق المقاومة في جيوب والقضاء عليها بالتدريج، وصولا الى ذات الفعل مع بيروت، التي طوقت بعد ايام قليلة من بدء العمليات العسكرية.

في الايام الاولى كانت السيارات تخرج من بيروت سكانا اتوا للعاصمة للعمل والحياة، غادرونا واتجهوا الى قراهم، وبقينا وحدنا، وبعض من اراد القتال، لاحقا فرغت المدينة، صار الخروج هو المطلب، والبقاء هو الجحيم.

لم يكن من السهل تصنيف الباقين، خاصة المقاتلين، الفلسطينيون بقوا لان لا مكان اخر ليذهبوا اليه، وقاتلوا حتى الرمق الاخير، القطاعات التي حوصرت من الجيش السوري بقيت لان قيادتها تخلت عنها، واضطرت للقتال بامرة القادة من المقاومة الفلسطينية، وبتمويل منهم وتذخير من مخازن فتح، ومن خرج من الجيش السوري تم القضاء عليه خلال انسحابه على طريق بحمدون، حيث فشلت القيادة السورية، او لم تعبأ بتامين غطاء جوي للقوات المنسحبة.

الطيران السوري نفسه فشل في مواجهة الطائرات الاسرائيلية، نفس القوات الجوية التي دمرت سوريا اليوم فوق المنتفضين على النظام، كانت تسقط طائراتها فوق لبنان كما الثمر المهترئ من اشجار ضربتها العاصفة.

اللبنانيون المقاتلون في احزاب الحركة الوطنية كانوا كل شيء، كانوا ابطالا، وكانوا لصوصا، وكانوا اساطير وانصاف الهة، كانوا اشباح المدينة وحماتها، الى جانب المقاتلين الفلسطينيين الذين رفعوا العبء الاكبر من ثقل الاجتياح والالة العسكرية الاسرائيلية.

في اليوم التالي، وبعد سقوط مدينتنا، التي تركنا فيها لشأننا، بدأت عمليات تزوير التاريخ، ونحن احياء، وقد شاهدنا وشهدنا. لم يخض احد معارك مشرفة الا القلة، لم يدافع المرابطون عن المتحف، ولا حركة امل تصدت للقوات المحتلة في خلدة، ومن يسأل يعلم، ومن عاش يومها يعرف، الا ان التاريخ يكتبه المنتصرون، ونحن هزمنا في بيروت. واخرج المدافعون عنها بحرا وبرا، وفر من كان منهم لبنانيا او عاش تحت الاحتلال وتحت سلطة دولة لبنانية يقودها امين الجميل تولت التنكيل بنا.

لم يدخل وزير الدفاع الاسرائيلي الى لبنان ببضع عشرات من الدبابات، ولم يجتح السماء بدزينة من الطائرات، لا يعلم من يتحدثون عن حروب وانتصارات اليوم معنى الالة العسكرية الاسرائيلية، ولا يلعمون معنى التعبئة العسكرية عند العدو.

لقد اجتاح البلد، وحاصر مدينتنا الاف الدبابات وناقلات الجند والمدافع ذاتية الحركة والطائرات، واحدث المعدات العسكرية في ذلك الحين، وكانت في مواجهتها جيوش صغيرة، فتح كانت جيشا صغيرا، وكل ميليشيات الحرب كانت تملك تشكيلات قتالية تشبه الجيوش، الا ان الماكينة المهاجمة اعتمدت التفوق الكمي والنوعي، ومع ذلك عجزت عن خرق اسوار مدينتنا طوال اشهر ثلاثة طويلة.

تلك البيروت التي عاشت رمضان ومحاولات تقدم، وقصف يومي مركز، وطلعات طيران دائمة، وطائرات استطلاع تئز ليل نهار، وقصف النابلم، والعنقودي والعشوائي وجربت بها اول قنبلة فراغية في العالم، تلك البيروت التي كانت خالية من البشر الا ما ندر، وجعنا فيها وعطشنا، ورفعنا رؤسنا لنشاهد مسار الطائرات الحربية اهي قادمة باتجاهنا ام مغادرة، تلك البيروت التي حمتنا من ابناء جلدتنا، الذين شكلوا دعما للمحتل، وساندوه، وتكفلوا باذلال مواطنيهم الخارجين من العاصمة المحاصرة. تلك البيروت هي الوحيدة التي تستحق الحب.

ثم تزور التاريخ، ودخل من دخل، وخرج من اراد، وقيل ان هؤلاء هم ابطال بيروت، وان احزابا لم تكن قد تشكلت بعد هي من حرر العاصمة والضاحية، وان اطفالا هم من تصدوا لانزالات خلدة والناعمة والرملة البيضاء، واختفت اصوات الابطال الحقيقيين، انصاف الالهة انصاف الشياطين، وبات الخائن شريك، ومن ازال اسوارنا اتى ليحكمنا، وتم التبشير بالسلم، ووالد رفيق دراستي قد انشق ظهره بشظية وضاعت عائلته في متاهات التكسب الرخيص بحثا عن الطعام والشراب وقليل من الاحترام.

اتى لاحقا من يخبرنا عن الطوائف، وتحاببها او صراعاتها، ونحن كنا نقف في ظمأ بيروت وننتظر طائرات العدو، وشاهد موت اترابنا والعالم يشاهد كأس العالم في لعبة كرة القدم.

يأتي من يخبرنا عن بوصلة، او عن اعتدال، او عن انظمة قاتلت اسرائيل، ونحن كنا شهودا على هروب وتخلي وخيانات لا تعد  ولا تحصى، يأتي من يخبرنا عن معارك مجيدة في عز الاجتياح، ونحن نعلم انه قاتل دفاعا عن عاصمة فساده، وترك جنوده يموتون على اسفلت بحمدون، وهناك من يخترع ابطالا لم يكونوا اكثر من لصوص يسرقون معدات غنمها المقاتلون على الخطوط الاولى، ويحدثونك عن محررين كانوا ضمن جيش شيعي تحت امرة العدو، ويتشدقون ببوصلة لم ترشدهم في عز التقدم الاسرائيلي الى الية واحدة او جندي واحد يتسكع في محالهم التجارية ويبتسمون له وهو ينقدهم بالشيكل، بينما نحن نقتل في بيروت قصفا ونارا وجوعا وعطشا.

تلك هي بيروت مدينتي الوحيدة، وكل ما عداها ملوث بالنفط والكذب والكراهية، تلك بيروت الحب والموت، ولا شيء يمكنه ان يبدل البوصلة، او يخدعنا في ما عشنا وعلمنا وذقنا.

فكرة واحدة على ”تلك بيروت الوحيدة التي اعرف

  1. كم ترددت بالحديث عن هذه الحقبة الموجعة والمؤلمة ونحن في ريعان الشباب نواجه البعبع الذي كانوا يحدثوننا عنه اي الجندي الإسرائيلي وقد تبين لنا لاحقا بعد مواجهته بأبسط الوسائل من عدة وعديد بأننا فعلا نحن الأبطال ونحن من حفر مجد بيروت وفي أعلى الصفحة، وهو ومن سانده وجاء معه ليدله على الطريق بأنهم الجبناء والخونة. لقد تكلمت بلسان كثر منا فداء واكيد بأنك تملك الأكثر ونحن كذلك. أحببت أن أزيد بأن نحن من أكل في عز الحصار من خبز بيروت المعفن الذي تركه اهله في عز موائدهم الفاخرة وفروا إلى شطآن الأمان جعلنا نعشق بيروت ونعشق الدفاع عنها أكثر من كثر من ساكنيها يدعون محبتهم لها وهم في الحقيقة يغتصبونها يوميا وبكل الوسائل.

    إعجاب

اترك رداً على Sam إلغاء الرد